كوارث صحّية
ناجح الزغدودي
الشيخ ذي اللحية البيضاء، خشيت عليه ان يفارق الحياة وبين يديه المرتعشتين، سيجارة بيضاء تمسّك بها بين شفتيه وهو ينفث دخانها وسط غرفة قسم العظام بمستشفى الأغالبة بالقيروان. لم يكن يكترث بوجود الزوار من حوله ولا بوجود اسرة أربعة مرضى ينتظرون العلاج وطبيبا لم يأت وممرضين يمارسون الغميضة ولعبة التخفي وآخرون منشغلون في أشياء أخرى.
لم تكن الجولة طويلة وسط الممر الضيق الذي كانت فيه فتاة ممددة على سرير متحرك وسط الرواق تنظر من يحملها الى غرفتها لتتلقى ما تحتاج اليه من علاج.
كما لم تكن الجولة نظيفة عندما أطلت النفيات من كل الأماكن لتعلن عن وجودها بين المرضى وتشكو غياب من يرفعها وغياب من يظف بالليل طوعا مثل من ينظف بالنهار كرها تحت ضغط المسؤولين.
لم تكن الرقابة هي الغائب الوحيد. الرجل القصير، ذي ملامح الفقير خرج مسرحا ليعود وفي يده قارورة تخفيف الآلام « برفالقون ». فقد أخبره الممرض انها لا توجد بالمستشفى، واحتار بين مواصلة الاستماع الى عروضه وبين آلام والده.
بعد التقاط بعض الصور غير السارة عن الوضع في قسم العظام، كان جهاز التصوير، هاتفي الذكي، شرها في التقاط المزيد من المشاهد والشهادات. ولكن الكهل صاحب اللكنة الفرنسية خير عدم التحدث امام الكاميرا عن سوء ما تعرض له والده من معاناة واهمال وتقصير. وبرر خشيته بانتقام من يعاتب تقصيرهم، وقال انه لا احد يمكنه ان يحمي والده منهم.
نفس الرجل الذي تركته بجانب والده، يسوي فراشه ويلاطفه وهو عاجز عن الحراك، خرج يبحث من مكان الى مكان عن مرشد له في حيرته. شاهد معي الشيخ الابيض وهو يدخن السيجارة التي امده بها الشاب المحبط الواقف بجانبه كأنما يرقب وفاته ليرثه، فعاتبه صاحب اللكنة الفرنسية دون ان يحرك الشيخ شفتيه لا بالموافقة ولا بالرفض.
اثناء بحثه وهو برفقتي تارة ويسألني تارة أخرى عن المسؤول بالقسم، وعندما ابتعد عن النافذة التي غادرها من كان بها، واتجه الى آخر الرواق قرب قسم الانعاش، اعترضه صاحب قميص ابيض شاب برفقة فتاة جميلة تتمايل مثل عارضة ازياء وسط الرواق تهتز مثل فرس تتفاخر بقوامها في موكب حفل أعيان. فطلب منهما قرصا يحث على النوم، فتجاهلته الفرس واستجاب صاحب القميص الابيض.
الغرف ضيقة ومحشوة بالمرضى والاسرة وزادها ضيقا الزيارات الثقيلة ودخان السجائر وغياب المشرفين. بقي بذهني حديث تلك الممرضة وشكايتها من تقاعس الاعوان غير المختصين بالمستشفى والذين يتدخلون في تفاصيل العمل دون اختصاص ويتورطون في السمسرة و »الجعالة » بين المحامين والصيدليات والمصحات الخاصة وتوفير أدوية المستشفى بمقابل.
لم يتغير شيء بالقسم رغم تردي عليه منذ 7سنوات. فقط نغير باب الدخول وبعض الممرضين والاعوان وتغيرت المعاملة نحو الأسوأ. لو أنني وجدت الناظر الحاج لكن حدثني عن تفاصيل أخرى ولهاجم أطرافا أخرى بالقسم ولكان ايضا تحدث عن تحسينات يفاخر بها. ولكن غيابه خلف تجاوزات أكبر وفوضى مضاعفة, الاكل ملقى هنا وهناك والفضلات ضاق بها وعاء النفايات.
لا شيء يعجبني أو يسرّ من يرى، ولا أحد يمكن أن يتمنى وجوه بقسم العظام بوحدة الأغالبة, هناك كارثة.